أدب وفن

( تدفقَ كمَا النَّهر ) وفاء عبد الرزاق

مجلة الشبكة مباشر

( تدفقَ كمَا النَّهر )

وفاء عبد الرزاق

مِن مَحطَّة ( Waterloo ) قصدتُ النَّهر قُربَ ( London Eye) مشياً على الأقدام ، مُستمتعة بالهواء النَّديِّ ، قابِضة على اللحظات الجميلة ، أسيرُ بِخُطى مُتهاديةً مُكتشِفة كُلَّ الأشياء التي أمرُّ بها .

أنقل بصري مِن شجرةٍ لشجرةٍ ، ومِن استغرابي في العمل الهائل الذي قام به المختصُّون لتشييد هذا الصَّرح العظيم ، أتواصلُ مع المُهرِّجين الذين ارتدوا ثياباً غريبة ، أحدهم صبغ ملابسه ووجهه وشَعره باللون الذهبيِّ ووقف صامتاً دون حراك ، مادَّاً عصاه إلى الأمام كأنَّه في حالة إنذار ..آخر ارتدَى ملابس ( سنفور) أحد أبطال الرُّسوم المُتحرِّكة ، مُرحِّباً بكُلِّ مَن يرغب في التقاط صور تذكاريَّة معه .. تَحلَّقَ حوله الأطفال والأهالي ، وعيونهم مشدودة باتِّجاه حلقة دائريَّة علتْ منها موسيقى صاخِبة ، توسَّط الحلقة أفريقيٌّ رقص على رأسه ، ثُمَّ وثبَ واقِفاً وأكملَ حركاتِه البهلوانيَّة .

في غِمار اكتشافاتي في الجولة المُمتعة ، رأيتُه جالساً على كُرسيٍّ صغير أمام آلة البيانو ، يعزِف ووجهُه باتِّجاه النَّهر .. تجمهر حوله السائرون مِن ذوي القُبَّعات ، والهنود وصاحبات الأفخاذ العارية.. لوحة صغيرة كُتب عليها اسم هذا الشاب الذي لم يتعدَّ الخامسة والعشرين ، وتفاصيل تقول ( سيسجل رقماً قياسيَّاً في موسوعة “جينيس”، ويعزف لمُدَّة أربعة وعشرين ساعة مُتواصلة دون توقف).

لم ينتبِه لأحد ولم يلتفتْ لمُناداة أحد ، عزف دون انقطاع بروحه وعقله ووجدانه ، وقد تناثرتْ غُرَّتُه على جبينه بفِعل حركة رأسه تجاوباً مع النغم.
كان على مقرُبةٍ مِن خشبة البيانو بقايا طعام وعصير .

بدا صلباً في تمايُله مع لحنه الشَّجيِّ وعذوبة الهواء ، مُستغرِقاً في استيعاب لحظته القُدسيَّة ، صاعِداً بابتسامة لم تُفارِق شفتَيه إلى وجدانه الخاصِّ ، مُتواصِلاً مع مَن يبتغي التَّحدي لأجلها .

هكذا توقَّعتُ مُنذ أنْ وقعتْ عيني عليه ، يُضمِر شيئاً في قلبه ، رُبَّما يتحدَّى خيانة امرأة ليُثبِتَ أنَّه الأكثر شفافيةً منها ، والأقدس وقتما يصِل إلى ذُروة نشوة الإيقاع .
رُبَّما موهبته أفضتْ له بسرِّ قُدرته وعظمته ، ليُسجِّل رقماً قياسيَّاً مع مَن سبقوه لهذه الموسوعة .

العزف يمحو الغضب ، بل يكنسه مثل هشيمٍ ويرميه للرِّيح .. لم يَبْدُ هذا الشَّاب العِشرينيُّ بائع أحلامٍ أو بائع أشواق زائفة .. بقناعته بذاته والتحامه مع رنَّات البيانو فتح أبواب مَسرَّاتنا، وأعاد إلى النَّشوة المشلولة في أجسادنا قوَّتها فتمايلتْ طرَباً .

كُلُّ شيءٍ حولنا تدفَّق كما النَّهر الذي احتضن الأضواء بتعرُّجات موجاته السَّريعة ، إثرَ مرور قاربٍ نهريٍّ مُحمَّلٍ بالرُّكاب الثَمِلين .
رمى القُبح قناعَه في النَّهر وأظهر ملامِحه الأُخرَى ، حتَّى الشَّيخ الجالس على الأرض ، احتشد حول نفسه خلفَ الشَّابِّ ، مُختصِراً شيخوخته بثوان امتدَّتْ إليه كَذِراعَيْ احتمالٍ أثارتا شُجونه ، ليُسلم جسده لرقص مُترنّح .

رجعتُ إلى داري ، أحمِل وميضه ، وما بقي مِن ارتجاف غُرَّته الشَّقراء .. أدخلتُه مع رفيقَيه إلى أوراقي البيض ، نجماً سابِحاً في عرق رغبته بامرأة يعشقها بجُنون . وأراد أنْ يوصِّل إليها مِقدار حُبِّه بطريقةٍ مُغايرةٍ .
يُدرِك جيِّداً أنَّها في حُضن الثـَّرِيِّ الذي فضَّلته عليه ، إنَّما راح يُطلِق اسمَها على امتداد البصر عبر موسيقى روحه وروح آلة البيانو .

لم تُحرِّك ساكِناً “لينغ لا نغوان”، والأبْلَه وقف وقفتَه الخاوية ، والمحتومة عليه مِن قِبَلِي .
أفلت القلم مِن يدي ، ثُمَّ رُحتُ أتأمَّل فِكرةً جديدةً لآخرِين أصبغ بسواد حبرهم حائط الورق .

*- الله مُشرع الأبواب ، يُريدنا أنْ ندخُل حيثُما كُنَّا ، وكيفما كُنَّا ، المُهم نُدرِكُه ونصِل إليه بحواسِّنا كُلّها .
أنْ نعرفه كي ندخُل ، ولا نعرفه إلَّا حين نعرِف أنفُسنا ، فالله فينا ، مِنِّا ، مِن الذَّاكرة .. مِن البياض في الدقيق ، مِن الزُّرقة في السَّماء ، مِن كُلِّ ما هو مَرئيٌّ وغيرُ مَرئيٍّ .

الله يُحلّق كيفما نُحلّق ، ونسمو . وطُرُق الوصول إليه مُجرَّد وسيلة وأجنحة .

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى