مقالات

معايير الإبداع وعلاقتها بالفكر النقدي

#الشبكة_مباشر_القاهري_حسن الحضري

من المعلوم بالضرورة أن النقد جزء من المنظومة الإبداعية، وركنٌ من أركانها، يلحقه ما يلحق بها من قوةٍ أو ضعفٍ، وازدهارٍ أو انحطاطٍ؛ والحفاظ على معايير الإبداع ومقوِّماته يكشف الحجم الحقيقي للقدرات النقدية؛ حيث لا يقترب من النقد حينئذٍ إلا من هو محيطٌ بمقوِّمات الفن الذي يندرج تحته النص الإبداعي، فيتعامل مع النص وهو عالم بقواعده، مدرك لِما يقول بشأنه، ولا يهمُّ آنذاك الرأي النقدي الذي يذهب إليه؛ بل المهم أنه قائم على أسس منهجية صحيحة.

أما الانحلال من الثوابت والمعايير؛ فإنه يكون دائمًا مصحوبًا بما يمكن أن يسمَّى بالعبث النقدي، الذي يدور في حلقة مفرغة لا يمسك فيها بشيء؛ لأن القائمين به في تلك الحال ليسوا من أهل العلم؛ بل هم أناسٌ وجدوا أن أي كلام أصبح من السهل إقحامه في طيَّات أي فنٍّ من فنون الأدب التي تم تجريدها من مقوِّماتها، فالعلوم إذا جُرِّدت من قواعدها؛ اقتحمها كل دخِيل، إمَّا بِزعمِ الإبداع وإما بِزعمِ النقد، وبعض العوامِّ في هذا العصر ينظرون إلى علوم الأدب واللغة باعتبارها مشاعًا مباحًا يحقُّ لهم العبث بها والجدال فيها بغير علم.

وعلوم الأدب التي تشهد ذلك التدهور والتراجع؛ كان لها شأنها الكبير -الذي ينبغي أن يظلَّ إلى قيام الساعة- كما روى ابن سلَّام [ت: 232هـ]: «قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه [ت: 23هـ]: كان الشعر عِلم قوم لم يكن لهم عِلم أصح منه»(1)، وكل علمٍ من العلوم له أصل في تسميته، فإذا تكلمنا عن الأدب كنموذجٍ؛ نجد أنه يعني «حُسن التَّناوُلِ، وسُمِّيَ أدبًا لأنه يأدب الناس إلى المحامد، وينهاهم عن المقابح»(2)، وكذلك الشعر «سُمِّيَ بهذا الاسم دون سائر العلوم؛ لاختصاصه بالوزن والقافية، وإن كان كل علمٍ شعرًا»(3)، قال الحطيئة [ت: 45هـ](4):

الشِّعرُ صعبٌ وطويلٌ سُلَّمُهْ

إذا ارتَقَى فيه الذي لا يَعْلَمُهْ

زَلَّتْ بهِ إلى الحَضِيضِ قَدَمُهْ

والشِّعرُ لا يَسْطِيعُهُ مَن يَظْلِمُهْ

يُرِيدُ أنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ

وقال ابن رشيق [ت: 463هـ]: «وإنما سُمِّيَ الشاعر شاعرًا؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليدُ معنًى ولا اختراعه، أو استظراف لفظٍ وابتداعه، أو زيادة قيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صَرفُ معنًى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر عليه مجازًا لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن»(5).

وكلام ابن رشيق فيما إذا كان الشاعر محافظًا على قواعد الشعر إلا أنه لا يبتكر في معانيه، فكيف بمن ينسلخ من تلك القواعد كليَّةً؟!! وبالقياس على ذلك في أي فنٍّ أدبي آخر، بل في أي علمٍ من العلوم؛ فكل علمٍ له ثوابته التي لا يمكن التجرد منها، والتي يكون عليها المدار، وإليها الاحتكام في كل تليدٍ أو طريفٍ يتعلَّق بها.
وليس من المقبول أبدًا أن يزعم أحد أنَّ الانحلال من المعايير هو نوع من التطور، أو يَصِمَ المحافظين على تلك المعايير بالجمود؛ فالتطور لا بدَّ له من بؤرة ينطلق منها، وهذه البؤرة هي الحكَم على ذلك التطور وبيان تَوافُقِه معها من عدمه، فلا يجوز العبث بها تحت أي مسمى، ومن توافرت لديه قدرات الإبداع والابتكار؛ سيكون إبداعه وابتكاره في ظل التطبيق الصحيح لتلك المعايير التي لا يمكن الانحلال منها، أما من قصرت به قدراته، وخمد به ذكاؤه؛ فذلك الذي لا يجد متَّكَأً يتكئ عليه سوى الزعم بأن هذه الثوابت والمعايير تمثل عائقًا في طريق التطور الإبداعي.

والنظرة المجحفة إلى معايير العلوم وثوابتها، التي ينظرها بعض مَن حُرِموا الذائقة السَّويَّة؛ هي التي أوجدت تلك التيارات العبثية التي تحاول اقتحام مجال الإبداع النقدي بِهدفِ محاولة التأصيل لأفكارهم الهدَّامة، والترويج لأباطيلهم المغلَّفة بمسمَّياتٍ عديمة الدلالة؛ ظنًّا منهم أنهم بذلك يُضْفون عليها شرعية الوجود العلمي.

ومعلومٌ أن النقد معناه التعامل مع النص وفْق مقوِّماته، بهدف إصدار حكمٍ علميٍّ بشأنه، استحسانًا أو استهجانًا؛ وبناء على ذلك ينبغي أن يكون هؤلاء الذين زعموا أن أي كلام يسمَّى إبداعًا، قد أصبحوا في غناءٍ عن النقد، لكن ليس الأمر كذلك؛ لأنهم حين جرَّدوا الإبداع من مقوِّماته؛ كان هدفهم إيجاد منظومة جديدة متكاملة الأركان، تتواءم مع فقرهم العلمي، وأفكارهم الهدَّامة؛ التي يَقْبعون بها في ظلمات الجهل والتَّدنِّي.

وفي الجانب الآخر نجد أن بعض من يمارسون العمل الإبداعي، يمارسونه كهوايةٍ، وبعضهم يمارسه من قَبِيل الوجاهة وحب الشهرة والظهور، ومعظم هؤلاء لا يعنيهم التصدي لأي خطر على العملية الإبداعية، وليس لديهم آليَّات المواجهة والرد العلمي المقنع، وأما العدد القليل من المبدعين المختصِّين، الذين يحترفون العمل الإبداعي ويمتلكون أدواته، ولديهم آليَّات التنظير والتطبيق بطريقة علمية صحيحة؛ فقد وجدوا أنفسهم في واقع منعزل، لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا سوى التزامهم الشخصي في إبداعاتهم بمعايير الإبداع ومقوِّماته، في ظلِّ إعلامٍ أكثرُه لا يهتم إلا بتسليط الأضواء على كل ما شذَّ وخالف وخرج عن المنهج الصحيح تحت زعمِ التطور.
إن الوعي بمعايير الإبداع هو الذي جعل أهل المدينة يفطنون إلى الإقواء الذي وقع فيه النابغة الذبياني [ت: 18ق.هـ] سهوًا، وهو «قوله:

مِن آلِ ميَّةَ رائحٌ أو مغتدِ***عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ مزوَّدِ
زعَمَ البوارحُ أنَّ رِحلَتَنا غدًا***وبذاك خبَّرنا الغدافُ الأسودُ
وقوله:
سقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه***فتناولتْه واتَّقَتْنا باليدِ
بمُخَضَّبٍ رخصٍ كأنَّ بنانَه***عنمٌ يكادُ من اللَّطافةِ يُعقَدُ

فقدم المدينة، فعِيب ذلك عليه، فلم يأبه، حتى أسمعوه إيَّاه في غناء، فقالوا للجارية: إذا صرتِ إلى القافية فرتِّلي؛ فلما قالت: الغدافُ الأسودُ، ويعقدُ، وباليدِ؛ علم وانتبه، فلم يعد فيه، وقال: قدمت الحجاز وفي شعري ضَعة، ورحلت عنها وأنا أشعر الناس»(6).

وكذلك ما وقع لبشر بن أبي خازم [ت: 22ق.هـ] حين استدرك عليه أخوه حيث «قال له: إنك تُقْوي؛ قال: وما الإقواء؟ قال: قولك:

ألَمْ ترَ أنَّ طُولَ الدَّهرِ يُسْلِي***ويُنسِي مثلما نُسِيَتْ جذامُ
ثم قلتَ:
وكانوا قومَنا فبغَوا علينا***فسُقناهم إلى البلدِ الشَّآمِ
فلم يعد للإقواء»(7).

فهذا هو النقد المستمَد من معايير الإبداع، الواعي بمقوِّمات الفن الذي يندرج تحته النص، وهو النقد الذي مارسته الأمَّة المبدعة، التي تعرف معنى الإبداع، وتدرك ما يلزمه من ثوابت ومعايير، فنجد أن المبدع والمتلقِّي يتَّفقان معًا على تلك المعايير، التي يستطيع المبدع تطبيقها بمهارة وتلقائية، ويستطيع المتلقِّي تذوُّقَها، واستكشاف ما قد يعتريها من خلل نتيجة سهو المبدع أو فصْله بين أجزاء العمل الواحد أو نحو ذلك.
وفي المقابل نجد أن الانحلال من معايير الإبداع، يَنتج عنه عملٌ عبثي، لا يستطيع المبدع إخراجه بصورة صحيحة، ولا يستطيع المتللقِّي أن يلمس ما به من قصور، ويقوم النقد حينئذ على الأهواء والمجاملات، وليس على فكرة تتعلَّق بشكل أو مضمون النص، كما هي الحال في بعض الأوساط الأدبية في هذه السنوات.

المصادر:
1- ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المدني، جدة، (1/ 24).

2- ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط3، 1414هـ، (1/ 206).

3- انظر المصدر السابق (4/ 410).

4- الأبيات من مشطور الرجز، في ديوان الحطيئة، شرحه: أبو الحسن السكري، تصحيح وطباعة: أحمد بن الأمين الشنجيطي، مطبعة التقدم، مصر، (ص111).

5- ابن رشيق، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط5، 1401هـ- 1981م، (1/ 116).

6- انظر: ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، (1/ 67- 68)؛ والأبيات من الكامل.

7- انظر: ابن قتيبة، الشعر والشعراء، دار الحديث، القاهرة، 1423هـ، (1/ 262)؛ والبيتان من الوافر.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى