أخبار العائلة العربية في المهجرأدب وفنمقالات

كلمة مهمةً ألقاها الأديب عبدالأمير المجر في إحتفالية تكريم الإعلامي د كاظم المقدادي في بغداد

#الشبكة_مباشر_بغداد

في حفل بهيج ، جرى في المركز الثقافي الفرنسي ، وبالتعاون مع اتحاد الأدباء و الكتاب في العراق ، وتنسيق الشاعرة الرائعة غرام الربيعي ،، وبتقديم مبهر من الاستاذ الاديب منذر عبد الحر ، تحدث الاساتذة طه جزاع و فاضل البدراني و صادق عزيز ، و عبد الهادي مهودر ، و مداخلات من المخرج جمال محمد و حمدي العطار وآخرين ،، تحدثوا عن تحربة المقدادي الباريسية وفي كتابة المقالة وفي الدرس الاكاديمي وتنظيراته الفكرية في كتبه الأخيرة المقدادي .. وكان من ابرز الذين سلطوا الضوء على تجربة المقدادي الاستاذ عبدالامير المجر ، الذي قرأ نصا بليغا في معنى عميق ،حيث قال:
المقدادي رحلة كفاح ..

ورسالة مثقف

عبدالأمير المجر
تعرفتُ وللمرةِ الاولى إلى الدكتور كاظم المقدادي كاتباً، في ثمانينياتِ القرن الماضي، وتحديدا ايام عسكريتي اثناء الحربِ، حيثُ كنتُ اقرأ وبنهم الصحفَ التي تأتينا الى هناك، كونها النافذةَ التي تخرجُنا من اجواء الكآبة والصمت الذي تقطعهُ اصواتُ المدافعِ والرصاصِ وحدها .. كان يراسلُ الصحفَ من الخارجِ وتتصدرُ الموضوعاتُ التي يرسلُها العبارةُ التي مازلتُ اتخيلُها .. كاظم المقدادي – باريس ..! لكنني تعرفتُ اليه بشكلٍ شخصي بعد العام 2003 وكان بيننا سلامٌ عابرٌ لم يتطور الى صداقةٍ ولم تجمعُنا مناسبةٌ معينةٌ للتعارفِ، كوننا وللأسفِ كمثقفينَ من اجناس الثقافةِ والابداعِ المختلفةِ، بقينا في علاقاتِنا شبه متقوقعينَ داخلَ مشاغلِنا الخاصة، فالأدباءُ يعرفونَ بعضَهم ويقرأونَ لهم بشكلٍ مكثفٍ بينما علاقتُهم بغيرِهِم من المثقفينَ والفنانينَ او الاعلاميينَ ظلت ثانويةً في الغالبِ الاّ ما يكونُ منها على شكلِ صداقاتِ ثنائيةِ تكرسُها ظروفٌ معينةٌ، وقد كتبتُ عن هذا الخللِ وهو خللٌ فعلاً! ..

لكن احدى المصادفاتِ الجميلةِ غيّرت شكلَ علاقتي بالمقدادي، وهذه حصلتْ بعد ان صرتُ اترددُ بشكل شبه يومي على مقهى (رضا علوان) في الكرادةِ في السنين الاخيرةِ ، اذ جمَعَتنا بآخرين مائدةٌ واحدةٌ بعد ان كان جلوسُنا معا غير مخططٍ لهُ، ورحنا نتبادلُ اطرافَ الحديثِ، فتحدثتُ عن أمرٍ ما لهُ علاقةٌ بالإعلامِ، وكان المقداديُ يجلسُ قبالتي، فردَّ عليّ بالقولِ؛ إنّ هذا موجودٌ في كتابي (تصدع السلطةِ الرابعةِ)، عندها عبّرتُ عن رغبتي في اقتنائِه وقراءتِه فوعدني بأن يجلِبَهُ لي في اليوم التالي، وفعلاً جاءني بهِ وبإهداءٍ بقلمه .. قرأتُ الكتابَ وكنتُ سعيداً بكم المعلوماتِ التي اطلعتُ عليها للمرةِ الأولى، فضلاً عن الاسلوبِ السلسِ والممتعِ الذي سأتأكدُ منه أكثر فيما بعد، وقد كتبتُ عنه محتفياً بهِ ومنبهاً من يريد أن يتعرفَ اكثرَ على عالمِ الاعلامِ أن يقرأَ هذا الكتابَ، وفعلاً اتصلَ بي اكثرُ من صديقٍ يرغبُ في قراءته ويطلبُ مني ارشادَهِ الى مكانِ بيعهِ .. وحين التقيتُ المقدادي وعبّرتُ له عن اعجابي بالكتابِ وعبّرَ هو عن اعجابِهِ بما كتبتُ، حدثني عن كتاب آخر لهُ كتبَهُ قبلَه بنحو اربعةِ عقودٍ، اي عندما كان في دون الثلاثينياتِ من عمرهِ وكان في الاصل بحثاً مقدماً لجامعةِ السوربون في باريس ومن متطلباتِ نيلِهِ شهادةَ الدكتوراه، عنوانُ الكتابِ هو ( البحثُ عن حريةِ التعبيرِ) .. عنوانٌ قد يبدو غير مثيرٍ، لكنني وبصدقٍ عندما قرأتُهُ وبزمنٍ قياسي ادهشتني فطنةُ الكاتبِ وذكاؤه وسعةُ اطلاعِهِ لاسيما وهو في تلكَ المرحلةِ العمريةِ، فضلا عن الجهدِ البحثي الواسعِ الذي بذلَهُ وهو يتقصى تاريخَ الصحافةِ العربيةِ في الداخلِ والخارجِ عائداً مع بداياتِها وابرزِ رموزِها، وقد كانت خلاصاتُهُ التي انتهى اليها تنمُ عن وعيٍ متقدمٍ وثقافةٍ عميقةٍ جعلتني ارى المقدادي الذي كنتُ اتابعُهُ من خلال وسائلِ الاعلامِ، وتحديداً الاعمدة التي يكتبُها في الصحافةِ ولقاءاته على شاشاتِ الفضائياتِ، انساناً آخرَ .. نعم لقد ايقنتُ وبعد أن انتهيتُ من هذينِ الكتابينِ أن من أسوأ ما في واقعِنا الثقافي هو غيابُ التواصلِ بالشكلِ المطلوبِ مع المبدعينَ في المجالاتِ الأخرى ..

لكن رحلتي مع المقدادي لم تصل الى ذروتِها بعد، ولم اتعرفْ اليهِ بشكلٍ اعمقٍ الاّ بعد ان اهداني كتابَهُ المثيرَ ( جدلُ الاتصالِ) الذي صدرَ بعد مدةٍ قصيرةٍ من اكمالِ قراءتي كتابَهُ (البحثُ عن حريةِ التعبيرِ) .. واعترفُ هنا أنّ هذا الكتابَ يمثلُ محطةً مهمةً في رحلةِ الثقافةِ العراقيةِ .. لقد وصفَهُ الدكتور شجاع العاني في جلسةٍ خاصةٍ جمعتني به بـ (قصة الحضارة) وهو كذلك فعلاً، إذ انحدرَ المقدادي عميقاً نحو بداياتِ التاريخِ البشري وصولاً الى الحاضرِ، ودورِ الاتصالِ بمختلفِ اشكالِهِ في صناعةِ الحضاراتِ وأهميةِ القدحاتِ الكبرى التي خرجت من عقولِ الفلاسفةِ والمفكرينَ والمصلحينَ والقادةِ الكبارِ في اضاءةِ عتمةِ الأزمنةِ وصناعةِ الحياةِ .. وإنه من الكتبِ التي يستحيلُ عرضَها او اختزالَها لأنّ كلَّ ورقةٍ فيهِ تستحقُ أن تقرأَ وبدقةٍ .. وقد كتبتُ بعد أن اكملتُ قراءةَ هذهِ الكتبِ الثلاثةِ مادةً بعنوان (المقدادي في ثلاثيةٍ مدهشةٍ) وهي مادةٌ تبقى بسيطةً ومتواضعةً امامَ الجهدِ العلمي والبحثي الذي قدمَّ لنا مفكراً لا يداخلني ادنى شكٍ في أنه كذلك .. لكن اعجابي بثقافةِ المقدادي ستبلغُ مرحلةَ الانبهارِ حين اهداني كتابَهُ (اوراقٌ باريسيةٌ) الذي صدرَ لهُ وهو في مطلعِ الثلاثينياتِ من عمرِهِ، وأُجنسُه بأنَّهُ من اهم واجمل روايات (ادب الرحلاتِ)، وبصدقٍ اقولُ أنّ شاباً ثلاثينياً يسبرُ اغوارَ العوالمِ الثقافيةِ الفرنسيةِ بمتاحفِها العريقةِ ومعارضِها الفنيةِ الكبيرةِ ونُصبِها وعوالمِها السريةِ المختلفةِ ومعالمِها التاريخيةِ ويعيدُ قراءتَها بدقةٍ وبرؤيةٍ ثاقبةٍ، يستحقُ أن يُمنَحَ على هذا الكتابِ او الروايةِ كما اراها ارفعَ الجوائزِ الادبيةِ الوطنيةِ. وقد كانت لي وقفةٌ احتفائيةٌ بهذا الكتابِ او الروايةِ نشرتُها في جريدةِ (الاتحاد الثقافي) التي أرأسُ تحريرَها.

بعد أن تعززت علاقتي بالمقدادي، وعرفتُ منهُ الكثيرّ عن رحلةِ حياتِهِ وطفولتِهِ وكيفيةِ سفرهِ الى باريس، ارجعتُ ماقدمَهُ من نتاجٍ ثقافي الى فطنتِهِ الفطريةِ وثقتِهِ الكبيرةِ بنفسِهِ واعتدادِهِ بها عندما خاضَ ما يشبهَ المغامرةَ وهو يغادرُ العراقَ في سبعينياتِ القرنِ الماضي متطلعاً الى مستقبلِهِ الذي رسمَهُ بصبرِهِ وكفاحِهِ، مذكراً إياي ببيتِ المتنبي الشهيرِ الذي يقولُ (إِذا غامَرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ … فَلا تَقنَع بِما دونَ النُجومِ ..

لقد غرقَ كثيرونَ في اجواءِ باريس واضوائِها المبهرةِ، وطوتُهم لياليها الحمراءُ واماكنُ اللهوِ والعبثِ ولم يستطيعوا ان يكونوا جزءًا من جسدِها الثقافي او يندمجوا باجوائِها الثقافيةِ بوصفِهِم فاعلينَ، وعادوا منها خائبينَ الاّ من حفنةِ ذكرياتٍ تجترُ مواقفَ ووقائعَ ليست ذاتَ قيمةٍ تتحدثُ عن مشاهداتٍ عابرةٍ من هامشِ الحياةِ في تلكَ المدينةِ العميقةِ، لكن المقدادي حققَ ذاتَه وحصلَ على ارفعِ الشهاداتِ والتقى كبارَ المثقفينَ الفرنسيين ورجالَ الدولةِ وحاورَهُم، وبالاعتمادِ على نفسِهِ .. وحينَ عادَ الى بلادِهِ ظلَّ بما يحملُهُ من وعيٍ وثقافةٍ رصينةٍ عصياً على التدجينِ، ليكونَ الى جانبِ كونِهِ صوتاً علمياً واكاديمياً لامعاً، صوتاً وطنياً ايضاً .. ليستمرَ في رسالتِهِ التي كانت منذ الصغرِ هاجسَهُ وطموحَهُ .. وكانت قدرَهُ ايضاً!

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى