الفنان الكبير طالب مكي .. الصامت – الناطق ببلاغة الفن
#الشبكة_مباشر_بغداد_د.كاظم المقدادي
ايها المندلاوي الفنان الرقيق ،، هل علمت انك أججت فيً الشوق والحنين ، وانت تقلب صفحات مبهرة لألق السنين ،، حقا لقد فجرت الذكريات مرة واحدة ، وانا اقرأ حديثك الجميل عن الفنان العبقري طالب المكين .. !!
تلك الايام .. كانت بحق ملهمة بابداعاتهاوعذاباتها ، وكنا قد عشناها في مكاتب ( مجلتي والمزمار) بالطابق العلوي بعمارة الرواف المطلة على نهر دجلة بشارع ابي نؤاس .
كان إبراهيم السعيد ،، رئيس التحرير ،، وهو الوسيم ،، العذب بأحاديثه وتعليقاته ، بأريحته ودماثة خلقه ، هو الذي جعل منا جميعا اسرة
واحدة عاملة .. وسط اجواء من الانسجام والفرح والوئام ، بفضل ادارته الفطنة الحالمة .
فنانون وكتاب وأدباء موهوبون ..كانوا يعملون بمجلة ( الف باء ) صباحا ،، ثم يلتحقون بمجلتي والمزمار عصرا ،، طالب مكي وصلاح چياد وفيصل لعيبي و وليد شيت وبسام فرج ومؤيد نعمة وميسر القاضلي وماهود وصبيح كلش و ياسر عبد الرحيم وضياء الحجار وأديب مكي وحنان شفيق ،، إلى منصور البكري وسيروان وعادل وآخرين .
وفي القصة والسيناريو والتحرير ،، كان عبد الستار ناصر وفاروق سلوم وكاظم صالح وعبدالإله الچلبي ومها البياتي وكاتب السطور .
وهناك من المبدعين الشباب الذين التحقوا بنا فيما بعد ،، علي المندلاوي ومجموعة اخرى من المبدعين لا تحضرني أسماءهم .
اما العملاق الشاخص دائما بيننا ، وهو الفنان الكبير طالب مكي ،، كان كثيرا ما يستوقفنا بجمال وعبقرية لوحاته ،، وتنوع أساليبه ،، وآفاقه الفنية المتوهجة .
وكثيرا ما نتوقف امام أعماله ونتاجاته الزاهية، و نتأمل لوحاته ورسوماته ، ونحن نقف اعجابا ، ونشيد بقدراته إجلالا .
طالب مكي بحق .. طاقة فنية توليدية مبتكرة ، دخل معهد الفنون كمستمع بوساطة جواد سليم ونباهته ،، وجرب حظه في الرسم بمجلة جبرا إبراهيم جبرا ورعايته .
كان والده مهتما به غاية بالاهتمام ،، كان كثير التنقل به من مكان إلى آخر بحثا عن وسط فني وبيئة تطور مواهب الطفولة الفذة ،، وتبعده عن سخرية أطفال الشطرة الذين استغلوا عجزه بالنطق ،، وهم يلاحقونه باستهزاء من زقاق إلى آخر ، ومن بيت إلى ثان .
كان طالب مكي ،، يلوذ بالطين متوحدا به ، كما كان السومريون يفعلون بالرقم الطينية ،، ليصبح فيما بعد نحاتا موهوبا ،، وبالطين الاصطناعي يزدان ملونا موصوفا ،، حتى استطاع بصمته الفني الطويل ان ينتج اعمالاً مذهلة ،، تركها بصمة ناصعة في “مجلتي والمزمار” بطاقة فردانية مذهلة ، و بالوانه المائية المتموجة ، وكان الرسم بالألوان المائية له علاقة بطبيعة العمل الطباعي في المجلة وشروطها الاخراجية .
الوان طالب مكي ،، نبصرها تجيء منسابة وهاجة منسجمة مع افكاره ، كل لون تصاحبه فكرة ، وكل خط من خطوطه له نسق وعبرة ، لتشكل جميعها ، ملحمة فنية على ورق ابيض ،، وفرشاة تتنقل برشاقة بفضل ذهنية متوقدة ، وقدرة تشكيلية فطنة .
طالب مكي ،، من اكثر الفنانين انتاجا وجرأة في طرح موضوعاته ،، استطاع بعمله واجتهاده الدؤب ترسيخ قدراته الأسلوبية ، لانتاج المفاهيم والمعاني ، تكون عادة منتقاة من فكرة عابرة ، وحكاية خاطفة ، ينتج عنهما رسم كاريكاتير لشخصيات معروفة بشكل مركب ومريب ، كما فعل وهو يتحرك بخفة وبشكل مدهش ،، متنقلا بين تكوينات وتضاريس وجه القائد الفلسطيني ياسر عرفات .
طالب مكي ،، يدرس موضوعاته بشكل جيد ومن زوايا ومدارس فنية مختلفة ،، قد يركز على البارز منها ، لكنه لا يغفل الحالات النفسية والإرهاصات الداخلية لموديلاته ،، التي كثيرا ما يقف أمامها قاضيا ،، قبل ان يكون فنانا .
وكثيرا ما يرواح ويمزج بروح فنية بين الرسم والنحت في موضوعاته المائية ،،هذا إذا ما عرفنا ان طالب مكي هو ايضا من النحاتين المبدعين .
في كاريكاتير ياسر عرفات ،، انتهج طالب مكي اسلوب الهرم المتدرج ، منطلقا من الاسفل إلى الأعلى .. بعد ان استقصى بذكاء ويقظة ، الشفاه وسمكها وحركة بؤرة العين واتجاهاتها .. ليصنع منهما بوصلة لاكتشاف بحور بقية اعضاء الوجه .. كما هو عمل البوصلة حين تستكشف مسالك وأعاصير وزوابع البحور البعيدة .
واني لأجده ايضا ،، شامخا متفردا في اروقة المجلة ، وفي كثير من حالاته ووقته ورغم توعكاته الصحية ،، متأملا وبشكل عميق منسجما مستغرقا في رسم لوحته ،، وكأنه يعيش لحظات صوفية لا مثيل لها.
اغلب الظن ،، ان صعوبة النطق عنده ، زادت من طاقته التعبيرية ببلاغة الفن وروعته ،، فكان عليه ان يشرح بفرشاته وألوانه ،، تعويضا عن عدم القدرة في الشرح والتعبير الصوتي .
هكذا كان طالب مكي و لا يزال ،، الغائب الحاضر بيننا ،، بقامته السامقة ، وقدًر لتلك القامة ان تكون لوحة كبيرة جميلة ، يعلقها عشاق الفن العراقي على جدران بيوتهم .
كاظم المقدادي