مقالات

بنية القصيدة العربية التقليدية في النقد القديم و الحديث

#الشبكة_مباشر_أنتويربن_بقلم: د. ضياء الجنابي

لم يكن النقاد القدامى أقل اهتماماً وانشغالاً بموضوع بنية القصيدة العربية التقليدية من النقاد المحدثين، وقد تعددت وتنوعت زوايا النظر لهذه الموضوعة للحد الذي تكاثرت الكتب والدراسات التي تناولتها، وترامى التوسع بمفاهيمها ومصطلحاتها ومنطلقاتها النظرية، ومن دون أدنى شك تم تأصيل المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي لمفردة البنية، ويمكن القول أن عموم المعنى اللغوي لا يخرج عن مفهوم البناء وبعده المعياري الذي يستبطن اشتراطات التكوين والإنشاء، أما المعنى الاصطلاحي فيدور في مفهوم الشكل المنجز المتحقق، غير أن مصطلح “بنية القصيدة” في مفاهيم النقد الأدبي الحديث يختص بكل ما يتعلق بصفات وخصائص القصيدة الناجزة.

و مفردة “بنية” بكسر الباء وضمها وردت في أغلب المعاجم العربية القديمة والحديثة، وهي مشتقة من الفعل الثلاثي (بنى)، وقد جاء في قاموس “لسان العرب” لابن منظور (ت711هـ) أن “البِنْيَةُ والبُنْيَة؛ ما بَنَيْتَه وهو البِنَى والبُنَى.. البِنيَة الهيأة التي بُنِيَّتْ عليها،.. وفلان صحيحُ البُنيَة، أيْ الفِطرة”، وفي كتب التراث العربي القديمة وردت مفردة “بنية” كذلك وتدل على التكوين الجسماني، على سبيل المثال جاء في كتاب “طبقات الشعراء” لابن المعتز العباسي (ت 296 هـ) قصة تتعلق بأبي العتاهية حينما أمر الخليفة المهدي بن المنصور جلده بسبب شعر قاله في جارية من جواريه، فقال ابن المعتز: “فأحضَرَهُ وضرَبَهُ بالسِّيَاط… وكان ضعيفَ البِنية فغُشيَ عليه”، وهذا الأمر ينسحب أيضاً على معنى مفردة “بنية” في اللغات والآداب العالمية، فقد ذكر عالم اللغة السيميائي الفرنسي جورج مونان (1910م-1993م) في كتابه “مدخل إلى الألسنة” ما نصه: “إن كلمة بنية ليس لها رواسب وأعماق ميتافيزيقية، فهي تدل أساسا على البناء بمعناه العادي”، وذكر هذا المعنى في سياق آخر في أحد مقالاته قائلاً: “إن كلمة بنية لا تُغادر معناها الصريح المتمثل في البناء والتشييد”.

و بعيداً عن المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي للمفردة، فأن مصطلح بنية القصيدة يعد دعامة أساسية من دعائم كينونة الشعر، ولا يخلوا هذا المصطلح من البعد الفني باعتباره يشتمل بشكل ما على الرؤية الفنية التي يعتمدها الشاعر في تناول الأفكار، وكذلك يشي بوجود علاقة خفية في معالجة القضايا المطروحة في القصيدة، وفي ذات الوقت يعكس بعض الجوانب التي تتعلق بالحياة الاجتماعية للعصر الذي يعيش فيه الشاعر ومستوى نتاجه الذهني والعقلي وذائقته الجمالية، ومن الملاحظ أن معظم النظريات النقدية التي تعرضت لمصطلح بنية القصيدة على اختلافها، لم تقف عند حدود الهيكل الخارجي للعمل الشعري وحسب، بل أجمعت بشكل غير اتفاقي على أنه يشير إلى تطور ونمو واستحكام وشائج وحدة العمل الفني داخل النص الشعري، ولا يوجد في جميع الدراسات أي خلاف على علاقة هذا المصطلح بالوحدة الداخلية للبناء الشعري التي تساهم بدورها في تحديد سماته وإبراز خصائصه الفنية، ولكن الشائع في الدراسات النقدية أن “الجانب الشكلي” هو الإطار العام ذي الدلالة الواضحة لمفهوم بنية القصيدة، ومن خلال الشكل الفني تتضح اشتراطات البناء الذي يؤسس صيرورة الشكل العام للنص الشعري.

بينما تظافرت آراء المهتمين بشأن القصيدة العربية وبنيتها من علماء اللغة القدامى بمختلف تخصصاتهم حول وحدة البيت الشعري في القصيدة العمودية، وكون استقلالية البيت إذا جازت التسمية لا تتعارض مع الوحدة البنائية العامة للقصيدة من خلال تماسك الأبيات فيما بينها، ناهيك عن تأثر وتأثير البيت الواحد بالبيت الذي قبله والبيت الذي يليه، ونستشف من هذا أن مدلول هذا المصطلح في النقد القديم أقرب ما يكون إلى معنى البناء، وضم الأجزاء إلى الأجزاء لأجل الوصول إلى القصيدة الناجزة، وهو بناء محدد التزم به شعراء العصر الجاهلي والعصور التي تلته، ونظموا على منواله أشعارهم، حتى بات هذا البنيان جوازاً لقبول قصائدهم وتلقيها، وصار من الصعب بمكان إلغاءه أو القفز عليه أبان مراحل الأدب العربي الأولى.

في حين أن الأدباء العرب المحدثين سواءاً الشعراء منهم أو النقاد طرحوا بقوة مصطلح وحدة الموضوع في القصيدة، أو ما تعارف عليه بالوحدة العضوية الذي يتقاطع ظاهرياً مع الآراء النقدية والتصويبية القديمة، وقد تبنت جماعة الديوان وجماعة أبولو الشعرية هذا المفهوم على بشكل قوي، ولابد من ذكر الشاعر خليل مطران في هذا المضمار باعتباره أول تنبه إلى وحدة الموضوع في القصيدة العربية عندما تحدث في مقدمة ديوانه الذي صدر عام 1900م عن ضرورة تلاحم القصيدة في بناء واحد، ومن خلاله يتم تولد المعاني وتتابعها بشكل منتظم متكامل في تركيبة عضوية موحدة، بعد ذلك نسجت الكثير من القصائد وفق هذا المفهوم، وكتبت العديد من الدراسات النقدية التي تؤكد على ضرورة انتظام القصيدة في وحدة فكرية وشعورية واحدة بغية تخليصها من روح التكرار وقيود الصنعة والتقليد، ولكن في نفس الوقت انتقد الكثير من النقاد العرب هذه الأطروحات باعتبارها محاكاة لأفكار الغرب الوافدة، وكونها تعكس عدم الاهتمام بقضايا وهموم الأمة، إضافة إلى اتكاءها البين على المراجع الغربية، وخصوصاً الأفكار التي طرحتها المدرسة الرومانسية المتعلقة بمسألة الربط بين الخيال والوحدة العضوية.

ومن الجدير بالإشارة أن نقّاد الأدب المعاصرين الغربيين منهم والعرب قد أكثروا من تشبيه القصيدة بالكائن الحي، وهو تشبيه جميل لا غبار عليه لأنه يستبطن دلالات عدة تسهم في فهم القصيدة فهماً صحيحاً يعزز مفهوم البعد الحياتي والبعد الواقعي فيها، وإظهار المعنى بشكل جلي في صورة مرئية، وإن كان قد سبقهم إلى هذا التشبيه الشاعر والكاتب العباسي أبو علي الحاتمي البغدادي (922م-998م) حينما اعتبر أن هذه الحيوية التي تنزع نحو التكامل، هي مقياس لجودة القصيدة. ويمكننا اعتبار آراء الحاتمي حول القصيدة العربية إشارات مبكرة إلى ما يصطلح عليه بوحدة القصيدة، هذه الوحدة العضوية التي تشبه إلى حد كبير جسد الإنسان الذي “إذا اشتكى منه عضوٌ” تختل البنية العامة فيه ويلحقه الضرر العام بسبب الخلل الذي طرأ على مكون واحد من مكوناته وعضو واحد من أحد أجهزته المتعددة.

نستخلص من هذا أن البنية في النقد الحديث من النوع الذي يحيلنا إلى المعنى الإجرائي، الذي هو التكوين والخلق، وقد زاد اهتمام النقاد المعاصرين بدراسة بنية القصيدة الحديثة مركزين في دراساتهم على عمليات الإنشاء والتكوين في بعدها الداخلي، وذلك يعود إلى تراصفهم مع ما يجب أن يكون عليه المضمون الجديد أولاً من حيث الأهمية، أكثر من المنجز الشكلي التقليدي في بناء القصيدة، كما أن الشعراء الحداثيين قد سئموا الأشكال البنائية المتكررة والقوالب الجاهزة، ونزعوا نحو الحرية والإنعتاق من القديم المستهلك، ساعين إلى ابتكار أشكال حداثوية جديدة، وصاحب ذلك عزوف النقاد عن التعامل والتفاعل مع ما هو غير فاعل في العملية الإبداعية، ومن هنا حصل التوافق بالفهم على العناصر التكوينية للنص الشعري التي ترتكز على المكونات الداخلية للنص، وأصبح بداهة أن البناء الداخلي للقصيدة هو المطلب العصري الأكثر ضرورة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى