أدب وفنمقالات

قصة قصيرة من قصص المهجر-(السجن الذي حرّرَني)

#الشبكة_مباشر_مالمو_ د.سناء صاحب الخزرجي

قصة قصيرة من قصص المهجر
بقلم: د.سناء صاحب الخزرجي

تجلس متكأة على الحائط الأبيض تقلّب في ألبوم ذكرياتها وتعيش في زمن الصور القديمة، على نقّالها الوردي الأنيق. وأمامها شاشة تلفاز كبيرة لا تفتأ تنقل أخباراً مكرّرة، ولكن بلغة أخرى لا تثير فيها أي عاطفة قديمة أو حنين. أما الصالة فتبدو مرتّبة ولكنها فارغة أيضاً إلّا من أثاثٍ تقليدي وقليل، هدؤء يغتال الوقت ببطءٍ شديد ولولا همسات النساء المستمرّة لأصبح المكان مزدحماً بأشباح زرقاء وصامتة. وعلى الرغم من خبرتها في معرفة الناس وسبر أغوارهم، الا انها لا تزال غير دقيقة في تخمين الملامح أو من أي بلاد جاءت تلك الوجوه! إذ لا تختلف لديها “السويديات” عن غيرهن من الأوربيات لمجرد أنهن شقراوات وبعيون ملوّنة، ومن سيكترث أخيراً!
بادرت إحدى النزيلات: Hej! var ifrån kommer du?*
لم تنتبه لسؤال هذه المرأة التي تبدو جديدة وتراها لأول مرة. وهذه الجملة معتادة كبداية لحديث تقليدي هنا فالكل يسأل الاخر عن بلده الأصلي، من المُمِلّ حقّا أن تجيب عن هذا السؤال في كل مرّة! اكتفت بابتسامة مصطنعة وأومأت برأسها تحييها ولكن من غير أن تَنبُسِ ببنت شَفَة. ثمّ نهضت من مكانها وجلست على كرسيّ آخر في زاوية بعيدة تفكّرُ في آخر مرة، كانت فيها بمركز جوتنبرغ. ومن أمام أبواب سوقها الكبير “الفمن”* عندما تلقت اتصال مُباغت من صديقتها الوفيّة، تسألها أن تتأكد من وجود ابنها “سرمد” هناك في زاوية يلتقي فيها المتمردون على قوانين المدينة وتمدُّنها فيبتاعون الممنوعات المُخَدّرة خلسة ويتعاطونها. وسرمد هذا ابن صديقتها المراهق المتمَرّد وكلتاهما تشكان في تورطه بتسويق أكياس من الممنوعات، فضلاً عن تعاطيه إياها.
صدفة عابثة غيّرَت مصير ندى، المرأة المثابرة، الطموحة التي لا تمنعها متاعب أو ظروف قاسية عن ملاحقة أهدافها وأحلامها كطفلةٍ عنيدة تعدو وراء فراشات هاربة. غير ان ما يميز ندى أكثر سوء حظّها مع الرجال، ولطالما سخرت من أحزانها بعبارات تهكم ومزاح لتخفي فراغها العاطفي وتوقها لقصة حب أسطوريّة. كانت تقول في كلّ مرّة، أن كل امرأة جميلة وذكيّة لا تنجح أبداً في علاقتها مع رجل تقليدي لا يتغيّر. بينما تحتاج إلى شريك مختلف وليس كائن نرجسي يفتعل الأزمات ليجعل الغَلِبة له دائماً، فيمارس العشق مع ذاته وينسى أن لديه معشوقة.
عثرت ندى أخيراً على سرمد الذي وجدها سريعاً وفي نفس الوقت، ثم ألقى بين يديها ظرف لا تعرف ما فيه. تركه عندها حين أحسَّ بخطرٍ يداهمه، فأمسكت بالظرف بعناد غريب تاركة سرمد يهرول هارباً بينما استسلمت ندى لرجال الشرطة. وقتها استغرب الجميع موقفها الغريب ومجازفتها بسمعتها الطيبة بينهم، ولكنها اعترفت أخيراً أمام الشرطة بان الظَرف وما فيه يعودان لها.
وهذا الحائط الأبيض، في لونه الباهت فراغ كبير كفضاء “الأهوار”* الواسع درّة الجنوب وحزن أهلها السرمدي يجعلك ترحل بعيداً بخيالك الجامح وأحلامك المجنونة، فلا تضطر معها أن تسافر ومحطتك التي لا تفارقها أبدا “نفسك” المسكونة بجسدك النحيل. حائط كبير بلا ألوان ، هو الآخر يئن مثقلا بأوجاع الفراغ وينتظر أن تغزوه الألوان. هذه الليلة سأرتكب جُنحة بريئة فبعد أن يغطّ الجميع في نومهم أسكب عليه ألواني الكثيرة وأقتل فُرشاتي المطيعة في جموده المُريع لتتمَرّغ في أحضانه الموحِشة، وتُنهِكَه حُبّاً بقبلات جاءت محمّلة بعشق جنوبيّ أوجعته طويلاً برودة الشتاء.
حدّثت ندى نفسها بابتسامة خفيفة وضحكة مكتومة: أنا نفسي لا أعرف لماذا الأصرار على ذنب لم أقترفه! أنا مجنونة! بل خائفة ربما مما كان سيحدث لي لو أني لم آت إلى هنا، انه الهروب.. ولكن مِمَّ؟! من مسؤولياتي الثقيلة؟! بل من قلقي من كل شيء. سئمتُ دورَ سيزيف ولم أعُد أحتمل اجترار التفاصيل اليومية. أنا حرة.. نعم، فهذا ما اشعر به الآن. أنا وحيدة ولم يعد أولادي بحاجة لي فقد كبروا وانشغلوا عني، وغريبة في بلد آخر ومجتمع لم أتعرّف عليه ولم أشعر يوما بالإنتماء اليه. وكم تعبت من اللحاق بالوظائف ودورات العمل التي غالبا مما أشغل نفسي بها! وأهدافي التي أصبحت هي الأخرى عبء ثقيل.. أوراقي ومواعيدي التي لا تنتهي. أنا أفضل حالاً في هذا المكان ولست مضطرة للعمل أو القلق حول المستقبل، هنا لدي تفاصيل كثيرة أنشغل بها. أنا أعمل الآن لدى نفسي، مجرد كاتبة مغمورة أكتب ما يحلو لي وأعيش مع ذاكرتي وأوراقي كما أريد.
في الخارج سجن كبير يخدع الناس لمجرد أنه بلا اسوار، فيظنون أنفسهم أحرار. ترى كيف نعلم يقيناً أن كان المكان مُحاطاً بالأسوار أم من غيرها؟! وحدها أفكارنا تقودنا للتصديق وأنا أصدق بأني تحررت أخيراً.
* من أيّ بلد أنتِ؟
*الفمن: مركز للتسّوق في وسط غوتنبرغ، غالباً ما يجتمع فيه الناس من كل مكان للتسوق وللالتقاء بالاخرين.
*الأهوار: مسطحات مائية واسعة وممتدة الأفق، متفردة في جمالها جنوب العراق.
*سيزيف: شخصية اسطورية “معذّبة” من الميثولوجيا القديمة، رجل مغضوب عليه من اله الموت. مأساته أنه معاقب الى الابد بحمل صخرة كبيرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، كلما وصل القمة تدحرجت الى الوادي فيعود الى رفعها من جديد.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى